في عصرنا الحالي، أصبحت المؤسسات تعتمد بشكل متزايد على التكنولوجيا الرقمية لإدارة البيانات، العمليات المالية، والتواصل الداخلي والخارجي. ومع هذا التوسع الرقمي، ظهر التهديد الداخلي ذو الخطورة الشديدة فهو يمكن أن يكلف الشركات ملايين الدولارات سنوياً. وفقاً لتقرير Cost of Insider Risks 2025، بلغ متوسط تكلفة الحوادث الأمنية الناتجة عن تهديد داخلي 17.4 مليون دولار لكل حادث، ما يجعل من الضروري للمؤسسات التعرف على طبيعة هذه المخاطر والتعامل معها بفعالية. كما أن التهديدات الداخلية يمكن أن تؤثر على السمعة، الثقة العامة، واستقرار الأعمال على المدى الطويل.
ما هو التهديد الداخلي؟
التهديد الداخلي هو خطر أمني ينبع من داخل المؤسسة نفسها، من موظف حالي أو سابق، أو متعاقد، أو أي شخص يملك وصولاً شرعياً لأنظمة المؤسسة وبياناتها. وغالباً ما يُقسم التهديد الداخلي إلى نوعين رئيسيين:
- متعمد: أي أن الشخص يسعى عن قصد لإلحاق الضرر بالمؤسسة.
- غير متعمد: يحدث نتيجة إهمال أو خطأ غير مقصود، مثل النقر على روابط ضارة أو سوء التعامل مع البيانات الحساسة.
يشير التقرير إلى أن 55% من الحوادث الداخلية تعود إلى أخطاء الموظفين أو الإهمال، وهو ما يوضح أن التهديد الداخلي لا يقتصر دائماً على نوايا سيئة، بل قد ينشأ من ممارسات يومية بسيطة يمكن أن تكون كارثية، مثل حفظ كلمات المرور على أجهزة غير آمنة أو مشاركة ملفات حساسة بدون إذن.
صعوبة اكتشاف التهديد الداخلي
تكمن الميزة الكبرى للتهديد الداخلي في استخدام الفاعل بيانات اعتماد (Credentials) مشروعة، ما يجعل مهمة اكتشاف الأنشطة الخبيثة أصعب بكثير مقارنة بالهجمات الخارجية. ولذلك، فإن المؤسسات بحاجة إلى استراتيجيات استباقية، تشمل:
- مراقبة الأنشطة غير الاعتيادية على الشبكات الداخلية باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي.
- فرض سياسات صارمة للوصول إلى البيانات الحساسة ومراجعة الصلاحيات بانتظام.
- تدريب الموظفين على السلوكيات الرقمية الآمنة، بما في ذلك التعرف على رسائل التصيّد وتقنيات الهندسة الاجتماعية.
- استخدام أدوات متقدمة لتحليل السلوك واكتشاف المخاطر قبل وقوع الضرر.
أنواع التهديدات الداخلية
يمكن تقسيم التهديد الداخلي إلى ثلاث فئات رئيسة:
1. الموظف المتعمد / الضار /الحانق
يتضمن هذا التصنيف شخصاً يسعى عمداً لإلحاق الضرر بالمؤسسة، سواء بدافع شخصي أو مالي أو انتقامي. قد يشمل ذلك سرقة بيانات حساسة، تعديل الأنظمة، أو التلاعب بالمعلومات. من الأمثلة الواقعية: حادثة موظف سابق في شركة “تسلا” عام 2018 الذي قام بسرقة بيانات وإحداث تغييرات في كود نظام الإنتاج. عادةً ما تكون هذه الهجمات مخططة بعناية، وصعبة الكشف المبكر، وتتطلب تقنيات مراقبة مستمرة لمواجهة أي نشاط مشبوه.
2. الموظف المهمل
يحدث هذا النوع نتيجة أخطاء غير مقصودة أو عدم الالتزام بالبروتوكولات الأمنية. قد يشمل ذلك الوقوع ضحية لرسائل تصيّد، استخدام كلمات مرور ضعيفة، أو تكوين خاطئ للأنظمة. مثال بارز: شركة “بوز ألن هاميلتون” في 2017 تعرضت لتسريب أكثر من 60,000 ملف حساس بسبب خطأ في إعدادات المخدم السحابي. يؤكد ذلك أهمية تدريب الموظفين على التعامل مع التكنولوجيا بشكل آمن.
3. الموظف الخارجي أو المتسلل من مستخدم خارجي
يشمل ذلك المتعاقدين أو البائعين الذين لديهم وصول شرعي إلى الأنظمة، لكن يتم استغلال وصولهم لأغراض خبيثة. مثال حديث: اختراق بيانات شركة Royal Mail عبر بائع خارجي في آذار- 2025، مما أدى إلى تسرب أكثر من 144 جيجابايت من البيانات الحساسة. وبالتالي فالمؤسسات التي تتعامل مع موردين خارجيين يجب أن تفرض مراجعات أمنية دورية لضمان عدم استغلال الوصول المشروع.
مؤشرات تحذيرية للتهديدات الداخلية
هناك عدة مؤشرات يمكن مراقبتها لاكتشاف التهديد الداخلي مبكراً:
- سلوك تسجيل دخول غير اعتيادي: مثل الدخول في أوقات غير عادية أو من أماكن غير معتادة.
- استخدام تطبيقات أو أدوات غير مصرح بها: الوصول إلى نظم العملاء أو البيانات المالية دون تصريح.
- تصعيد الصلاحيات بشكل غير مبرر: محاولة زيادة مستوى الوصول إلى أنظمة حساسة.
- تحميل أو نقل بيانات كبيرة وغير معتادة: قد يكون هذا مؤشراً على سرقة أو تسريب بيانات.
- تعديلات غير مشروعة على برامج الحماية أو الجدران النارية: لتسهيل اختراق الأنظمة لاحقاً.
كلمة أخيرة
التهديدات الداخلية ليست مجرد مسألة تقنية، بل تمثل تحدياً بشرياً وإدارياً أيضاً. يتطلب التصدي لها دمج استراتيجيات تكنولوجية متقدمة مع تدريب مستمر للموظفين، وتطبيق سياسات صارمة للولوج وإدارة البيانات. فالمؤسسات التي تستثمر في رصد التهديدات الداخلية والوقاية منها لا تحمي نفسها من الخسائر المالية فحسب، بل تكتسب أيضاً ميزة تنافسية من خلال تعزيز ثقة العملاء والشركاء في قدراتها الأمنية. ولذلك، يعتبر الاستثمار في الأمن الداخلي استثماراً طويل الأمد يحول كل تهديد محتمل إلى فرصة لتعزيز الكفاءة والثقة في المؤسسة. كما أن دمج أدوات التحليل الذكية، التدريب المستمر، ومراجعة السياسات الداخلية بشكل دوري، يزيد قدرة المؤسسة على منع أي حوادث مستقبلية قبل حدوثها.