في المشهد الرقمي المترابط اليوم، أصبح تقليل احتمالية التأثير المادي الناجم عن الأحداث السيبرانية حجر الزاوية لاستراتيجيات الأمن السيبراني الفعّالة. يقترح هذا المقال ملامح إطار استراتيجي للأمن السيبراني يهدف لتقليل المخاطر مع ضمان استمرارية التشغيل. في قلب هذا الإطار يكمن المبدأ الأساسي: تقليل احتمالية التأثير المادي (التكلفة) للحدث السيبراني خلال فترة زمنية محددة. إن هذا المبدأ يعمل بمثابة البوصلة التي توجه جميع جهود الأمن السيبراني، حيث يحول التركيز من التكتيكات المنعزلة إلى اتجاه استراتيجي متماسك. ونؤكد على أهمية مواءمة الاستراتيجيات مع هذا المبدأ، حيث تؤدي الإجراءات غير المترابطة دون استراتيجية موحدة إلى عدم الكفاءة والثغرات الأمنية.
يجب التمييز بين الاستراتيجية والتكتيك. ففي حين تحدد الاستراتيجية “ماذا” (الأهداف النهائية)، يمثل التكتيك “كيف” (الإجراءات اللازمة لتحقيق هذه الأهداف). ويضمن هذا التفاعل أن تكون الجهود هادفة وفعالة بدلاً من أن تكون ارتجالية و مجزأة. وفيما يلي نفصل الاستراتيجيات المقترحة.
الثقة الصفرية – إطار استراتيجي للأمن السيبراني
تتحدى استراتيجية الثقة الصفرية الدفاعات التقليدية القائمة على افتراض أن الخطر خارج القلعة (المحيط). على العكس من ذلك، يفترض هذا المبدأ أن الخصوم موجودون بالفعل داخل الشبكة. وبالتالي فإن المطلوب هو تصميم بيئة لا يحظى فيها أي كيان – داخلي أو خارجي – بالثقة بشكل افتراضي. تتضمن العناصر الرئيسة ما يلي:
- إدارة الهوية والوصول (IAM): وضع ضوابط صارمة على من وما يمكنه الوصول إلى الأنظمة.
- المراقبة المستمرة: ضمان الامتثال للقواعد المعمول بها واكتشاف الإجراءات غير المصرح بها.
- النظافة السيبرانية: تأمين جميع نقاط الدخول والتخفيف من نقاط الضعف.
من خلال فرض ضوابط الوصول وإغلاق “نقاط الدخول المحتملة”، تقلل المؤسسات بشكل كبير من فرص نجاح الخصوم السيبرانيين بمخططاتهم. ومع ذلك، فإن هذه الاستراتيجية ليست أمراً ننفذه لمرة واحدة ولكنها رحلة مستمرة من التحسين من خلال التصميم والتعديلات الديناميكية على الشبكة.
سلسلة إحباط الهجوم السيبراني
لا يخترع الخصوم السيبرانيون أنماط هجوم جديدة لكل ضحية مستهدفة بشكل فردي. إنهم يعيدون استخدام نفس تسلسلات الهجوم مراراً وتكراراً حتى يحبطهم أحد المدافعين عن الشبكة. وحتى في هذه الحالة، فإنهم لا يتخلصون من الحملة بأكملها. إنهم يغيرون الخطوة المحددة التي تم حظرها. ونظراً لأننا نعرف معظم تسلسلات الهجوم، فمن المنطقي أن نصمم وننشر ضوابط الوقاية والكشف لأي مجموعة أمان قمنا بنشرها بناءاً على هذه المعلومات. ويمكن الاستفادة من معلومات الاستخبارات السيبرانية لإحباط جهود الخصوم.
بينما تعالج الثقة الصفرية نقاط الضعف العامة، فإن جهود إحباط الهجمات السيبرانية (Cyber Kill Chain) تتبنى نهجاً أكثر استهدافاً من خلال التركيز على سلوكيات الخصم المعروفة. غالباً ما تتبع الهجمات السيبرانية سلسلة من الخطوات يمكن التنبؤ بها، و تتضمن الاستراتيجية:
- ضوابط خاصة بالخصم: استخدام أطر عمل مثل MITRE ATT&CK لتحديد أنماط الهجوم المعروفة وتعطيلها.
- الكشف والوقاية: تنفيذ ضوابط مصممة خصيصاً لتكتيكات وتقنيات وإجراءات خصوم محددين.
- المشاركة الاستباقية: مراقبة حركات الخصوم ومواجهتها في كل مرحلة من مراحل تسلسل هجومها.
إطار استراتيجي للأمن السيبراني – المرونة السيبرانية
حتى مع التدابير الوقائية المحكمة، فإن الخروقات أمر لا مفر منه. تضمن استراتيجية المرونة استمرار العمليات الأساسية على الرغم من الحوادث السيبرانية. تُعرف المرونة بأنها القدرة على “الاستمرار في تحقيق نتائج الأعمال المرجوة على الرغم من الأحداث السيبرانية السلبية”. تتضمن المكونات الرئيسية:
- التخطيط للأزمات: الاستعداد للاضطرابات المحتملة من خلال خطط الاستجابة التفصيلية.
- النسخ الاحتياطي والاسترداد: الحفاظ على سلامة البيانات وضمان الاستعادة السريعة للخدمات.
- الامتثال والتشفير: الالتزام بالمعايير التنظيمية وحماية البيانات في حالة السكون والحركة.
يمكننا أخذ العبرة من ممارسات شركات السحابة العملاقة مثل Google وAmazon، التي تمتص بنيتها التحتية المرنة الأعطال دون تعطيل أعمال زبائنها. تعمل هذه الاستراتيجية على سد الفجوة بين الوقاية والتعافي، مما يعزز قدرة المؤسسة على تحمل التحديات والتكيف معها.
التنبؤ بالمخاطر
حجر الزاوية في إطار استراتيجي للأمن السيبراني هو القدرة على قياس وتوقع المخاطر بدقة. بدون هذه القدرة، لا تستطيع المؤسسات تقييم فعالية استراتيجياتها وهناك عدة منهجيات للتنبؤ بالمخاطر، ومنها:
- الاستعانة بنماذج التنبؤ المتقدمة لتقدير الاحتمالات.
- حسابات مبسطة لاتخاذ القرارات السريعة.
- دمج البيانات التاريخية مع الملاحظات الحالية لتحسين التنبؤات.
ينصب التركيز على التقديرات “الجيدة بما فيه الكفاية” بدلاً من الحسابات الدقيقة. تمكن هذه الأرقام التقريبية فرق الأمن من اتخاذ قرارات مستنيرة بسرعة ونقل نتائجها بفعالية إلى قادة الأمن السيبراني. يحول التنبؤ بالمخاطر المفاهيم المجردة إلى رؤى قابلة للتنفيذ، مما يعزز وضع الأمن السيبراني العام.
الأتمتة كجزء من إطار استراتيجي للأمن السيبراني
في مواجهة التهديدات سريعة التطور، تعد الأتمتة أمراً بالغ الأهمية للحفاظ على المرونة وقابلية التوسع. و تطورت الأتمتة عبر مسيرتها من عمليات تكنولوجيا المعلومات المبكرة إلى (IaC) ممارسات البنية التحتية الحديثة كرمز وDevSecOps. تتضمن الفوائد الرئيسة ما يلي:
- الاتساق والحجم: تعمل أتمتة المهام المتكررة على تقليل الخطأ البشري وتعزيز الكفاءة.
- أوقات الاستجابة السريعة: تمكين التعديلات السريعة على تدابير الأمان مع تطور التهديدات.
- التكامل مع DevOps: دمج الأمان في مسارات التطوير لإنشاء نهج موحد.
وبالتالي فالأتمتة ضرورية للبقاء في صدارة الخصوم الذين يتبعون بالفعل إجراءات قوية أتمتة عملياتهم. وبالتعامل مع الأتمتة كركيزة أساسية لإطار الأمن السيبراني، سنضمن أن تظل الاستراتيجيات فعالة وقابلة للتكيف في بيئة ديناميكية.
التكامل الاستراتيجي
إن الاستراتيجيات الخمس الموضحة – الثقة الصفرية، ومنع سلسلة قتل التطفل، والمرونة، وتوقع المخاطر، والأتمتة – ليست جهوداً معزولة ولكنها مكونات مترابطة لإطار متماسك. وهي تعالج معاً كل جانب من جوانب الأمن السيبراني، من الوقاية والكشف إلى الاسترداد والقدرة على التكيف.
- الثقة الصفرية تنشئ خط أساس آمن.
- سلسلة القتل السيبراني: مواجهة الخصوم السيبرانيين بتدابير منهجية.
- المرونة تضمن الاستمرارية أثناء اضطرابات العمل.
- التنبؤ بالمخاطر يوفر الرؤية اللازمة لاتخاذ القرارات المستنيرة.
- الأتمتة تعزز الكفاءة والمرونة.
يعتمد اختيار الاستراتيجيات التي سيتم تنفيذها وإلى أي مدى، على عوامل تنظيمية مثل الحجم والثقافة السائدة في المؤسسة وأولويات القيادة. ويظل الهدف النهائي: تقليل احتمالية التأثير المالي وتعزيز مرونة الأمن السيبراني بشكل عام.
كلمة أخيرة
الأمن السيبراني هو مجال ديناميكي يتطلب نهجاً استراتيجياً قائماً على المبادئ. من خلال الالتزام بالمبدأ الأساسي المتمثل في تقليل التأثير المالي ودمج الاستراتيجيات الخمس الأساسية، يمكن للمؤسسات ااستمرار بالعمل وتجاوز تعقيدات التهديدات. تقدم كل استراتيجية فوائد فريدة، ويضمن تنفيذها بشكل متناغم إطاراً قوياً ومرناً للأمن السيبراني. إن تحقيق التميز في الأمن السيبراني هو رحلة وليست وجهة. وبالتالي فالتحسين المستمر، والرؤية الاستراتيجية، والالتزام بالمبادئ الأساسية من شأنه أن يمكّن المؤسسات من النجاح في عالم رقمي مترابط.